فوائد من السنة لطلبة العلم
توطئة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد أتقدم إلى كل مسلم غيور على دينه حريص على طلب العلم والتزود منه لا لشيء إلا ليعمل به ويُعَلِّمه غيره ، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه طلبة العلم والحريصون عليه اقتداء بسلفهم الصالح الذين كانوا يستعينون على حفظ الأحاديث بالعمل به كما روى البيهقي في شعب الإيمان ( 1884) عن وكيع قال : سمعت إسماعيل بن إبراهيم بن مجمع بن حارثة يقول : ((كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به )) , وعن الحسن قال : (( قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشُّعه وهديه ولسانه وبصره وبرّه )) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1670) وأحمد في الزهد (261) والخطيب في الجامع (1/142) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/60)
واعلم أخي طالب العلم أن للعلم خطوات تدل على مدى التوفيق الذي يبلغه العبد في طلبه وهو ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله : (( أول العلم الاستماع ، ثم الفهم ، ثم الحفظ ، ثم العمل، ثم النشر)) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1658) وأبو نعيم في الحلية (7/274) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/118)
ولا تنس أخي أن تجدد الإخلاص على الدوام في قلبك وتتعاهد نفسك بذلك باستمرار لأن ليس شيء أحب إلى إبليس من أن يوقعك في الشرك ، وذلك بأن يجعل عملك لغير الله ، وتذكر قول الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قال الله عز وجل : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )) أخرجه مسلم (2985) ، وابن ماجه (رقم 4202)
واحذر أيضا الوعيد الذي ورد في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ ، لا يَتَعَلَّمُهُ إِلا لَيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا ، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) أخرجه أحمد (2/338 ، رقم 8438) ، وأبو داود (3/323 ، رقم 3664) ، وابن ماجه (1/92 ، رقم 252) ، والحاكم (1/60 ، رقم 288) وقال : صحيح سنده ثقات رواته على شرط الشيخين . والبيهقي في شعب الإيمان (1634)
ويمكنك أن تستنير بهذا القول لإبراهيم بن أدهم رحمه الله : (( من طلب العلم خالصا لينتفع به عباد الله وينفع نفسه كان الخمول أحبَّ إليه من التطاول ، فذلك الذي يزداد في نفسه ذلاًّ وفي العبادة اجتهادا ، ومن الله خوفا ، وإليه اشتياقا ، وفي الناس تواضعا ، لا يبالي على ما أمسى وأصبح في هذه الدنيا ))أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1653) والذهبي في السير نحوه ( 7/394)
وفي الختام ما أجمل ما قاله الحليمي في المنهاج (2/208) : و ينبغي لطالب العلم أن يكون تعلمه و للعالم أن يكون تعليمه لوجه الله تعالى جدّه لا يريد به التعلم أن يكسب بما تعلمه مالا أو يزداد به في الناس جاها أو على أقرانه استعلاء أو لأضداده أقماعا و لا يريد العالم بتعليمه أن يكثر الآخرون عنه و إذا أحصوا وجدوا أكثر من الآخذين عن غيره و لا أن يكون علمه أظهر في الناس من علم غيره و يريد العالم أداء الأمانة بنشر ما حصل عنده و أحيا معالم الدين و صيانتها عن أن يدرس أو يزول .
أخي طالب العلم هذا قليل من كثير من درر العلماء وللزيادة عليك بالرجوع إلى كتب التراجم والتاريخ فإن فيها الدرر .
واسمع إلى ابن المبارك حين قيل له : تكثر الجلوس في بيتك ألا تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان . أخرجه الخطيب في تاريخه (10/154)
وهذا ليس دعوة للعزلة وعدم الخلطة ، وإنما حث على الاستفادة واستغلال الوقت كما قال ابن المبارك رحمه الله :
لقاء الناس ليس يفيد شيئا سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا لطلب علم أو إصلاح حال
ـــــــــ
وبعد هذه المقدمة أحببت أن أقدم لك في كل مرة حديث من أحاديث البخاري مرفقة ببعض الفوائد المستقاة منها كما نبه عليها شراح الحديث دون التقيد بالترتيب .
وحديث هذه الحلقة لتعلقه بباب العلم هو : باب الخروج في التجارة
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) .
قال البخاري رحمه الله : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَكَأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولاً فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى ، فَفَرَغَ عُمَرُ فَقَالَ أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ائْذَنُوا لَهُ قِيلَ قَدْ رَجَعَ . فَدَعَاهُ . فَقَالَ كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ . فَقَالَ تَأْتِينِي عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ . فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الأَنْصَارِ ، فَسَأَلَهُمْ . فَقَالُوا لاَ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلاَّ أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ . فَذَهَبَ بِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ . فَقَالَ عُمَرُ : أَخَفِيَ عَلَىَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ . يَعْنِى الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ ))
تخريج :أخرجه البخاري في كتاب البيوع (رقم 2062) و في كتاب الاستئذان / باب التسليم والاستئذان ثلاثا (رقم 6245) من حديث أبي سعيد الخدري وفيه أن الذي قام مع أبي موسى الأشعري هو أبي بن كعب رضي الله عنه وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب الحجة على من قال إن أحكام النبي كانت ظاهرة ، وما بعضهم يغيب من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام ( 7353)بنحو حديث الباب وأن الذي قام معه أبو سعيد .وأخرجه مسلم كتاب الأدب / باب الاستئذان (2153)وفيه أن أبي بن كعب قال : لا يقوم معه إلا أصغر القوم ، قال أبو سعيد : قلت : أنا أصغر القوم ، قال : فاذهب . و (برقم 2154) وفيه أن الشاهد أبي بن كعب وقال له : يا ابن الخطاب : لا تكن عذابا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : سبحان الله إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت .
تنبيه
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/ 28ـ 29) : اتفق الرواة على أنَّ الذي شهد لأبي موسى عند عمر أبو سعيد ، وقال عن رواية مسلم التي قال فيها أبي بن كعب : يا ابن الخطاب ، بأنها من طريق طلحة بن يحي وفيه ضعف ورواية الأكثر أولى أن تكون محفوظة ، ويمكن الجمع بأن أبي بن كعب جاء بعد أن شهد أبو سعيد . وبهذا جمع القرطبي رحم الله في المفهم ( 5/475)
فوائد من الحديث :
1ـ قول أبي موسى : ( كنا نؤمر بذلك )فيه دلالة على أن قول الصحابي ذلك محمول على الرفع ويقوي ذلك إذا ساقه مساق الاستدلال .
2ـ إيجاب الاستئذان وهو الاستئناس الذي في قوله تعالى : (( حتى تستأنسوا )) النور/27 ،وأن الاستئذان لابد أن يكون ثلاثا فإن أذن وإلا رجع لورود النص الذي عناه أبو موسى بقوله : كنا نؤمر بذلك .
3ـ التثبت في خبر الواحد ، لما يجوز عليه من السهو والخطأ وغيره ، وليس في الحديث دلالة على رد خبر الواحد كما هو زعم البعض وفي رواية أبي داود (5183) قال عمر لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ولكني أردت ألا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قبل عمر خبر الضحاك بن سفيان في ميراث المرأة من دية زوجها ، وقبل خبر حمل بن مالك الهذلي الأعرابي في دية الجنين غرة عبد أو أمة ، وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف في الجزية وفي الطاعون وغيرهة.
4ـ فيه أن العالم المتبحر قد يخفى عليه من العلم من يعلمه من هو دونه ، والإحاطة لله وحده .
5ـ فيه أن لصاحب المنزل إذا سمع الاستئذان أن لا يأذن سواء سلم مرة أم مرتين أم ثلاثا إذا كان في شغل له ديني أو دنيوي .
6ـ وفيه أن طلب الدنيا تمنع من استفادة العلم ، وأن كلما ازداد المرء طلبا لها ازداد جهلا ، وقلَّ علمه ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه : وإنَّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، ففاتهم بسبب ذلك علم كثير .
نفعني الله وإياكم بالعلم النافع ووفقني وإياكم للعمل الصالح